صفحة جديدة 1
القِسْم الخَامس: الكِتَابة: وهي أن يكتُب الشَّيخ مَسْمُوعهُ لحاضرٍ أو غَائبٍ
بخطِّه أو بأمرهِ.
وهي ضَرْبان: مُجرَّدة عن الإجَازة، ومَقْرُونة بأجزتُكَ ما كَتبتُ لكَ، أو إليكَ،
ونحوهُ من عِبَارة الإجَازة، وهذا في الصحَّة والقُوَّة كالمُنَاولة المقْرُونة،
وأمَّا المُجَرَّدة فمَنَعَ الرِّواية بها قومٌ، منهم القَاضي المَاوردي الشَّافعي،
وأجَازهَا كَثيرُونَ من المُتقدِّمين والمُتأخِّرين، منهم: أيُّوب السِّخْتياني،
ومنصُور، واللَّيث، وغير واحد من الشَّافعيين وأصْحَاب الأصُول، وهو الصَّحيحُ
المَشْهُورِ بين أهل الحَدِيث، ويُوجد في مُصْنَّفاتهم: كتبَ إليَّ فُلانٌ، قال:
حدَّثنا فُلانٌ، والمُرَاد به هذا، وهو مَعْمُولٌ به عِنْدهم معدُودٌ في الموصُولِ
لإشْعَاره بمعنى الإجَازة، وزاد السَّمعاني فقال: هي أقْوَى من الإجَازةِ.
ثُمَّ يَكْفي مَعْرفتهُ خط الكَاتب، ومنهُم مَنْ شَرطَ البَيِّنة وهو ضعيفٌ..
وفي «صحيح» مُسلم أحاديث كثيرة بالمُكَاتبة في أثناء السَّند.
منها: ما أخرجاه(860) عن ورَّادٍ، قال: كتبَ مُعَاوية إلى المُغيرة: أن أكتُب إليَّ
ما سَمِعتَ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتبَ إليه الحديث في القولِ عقب
الصَّلاة.
وأخرجا(861) عن ابن عَوْن، قال: «كَتَبَ إليّ نافع، فكتب إليَّ أنَّ النَّبي صلى
الله عليه وسلم أغَارَ على بَنِي المُصْطلق...» الحديث.
ثُمَّ الصَّحيح أنَّهُ يَقُول في الرِّواية بها: كتبَ إليَّ فُلان، قال: حدَّثنا
فُلان، أو أخْبَرني فُلان مُكَاتبة، أو كِتَابة ونحوهُ.
ولا يَجُوز إطْلاق حدَّثنا وأخْبَرنا، وجوَّزه الَّليث ومنصُور وغير واحد من عُلماء
المُحدِّثين وكِبَارهم.
القِسْمُ السَّادس: إعْلامُ الشَّيخ الطَّالب أنَّ هذا الحديث، أو الكِتَاب
سَمَاعهُ مُقْتصرًا عليه، فجَوَّز الرِّوَاية به كثيرٌ من أصْحَاب الحديث والفِقْه
والأُصُول والظَّاهر، منهم: ابن جُريج، وابن الصبَّاغ الشَّافعي، وأبو العبَّاس
الغَمْري – بالمعجمة- المَالكيُّ.
قال بعضُ الظَّاهرية: لو قالَ: هذهِ رِوَايتي، لا تَرْوهَا، كانَ لهُ روايتهَا
عنهُ.
والصَّحيح ما قالهُ غير واحد من المُحدِّثين وغيرهم أنَّه لا تَجُوز الرِّواية به،
لكن يجب العمل بهِ إن صحَّ سَندهُ.
القِسْم السَّابع: الوصيَّةُ، هي أن يُوصِي عند موتهِ أو سَفَرهِ بِكتَابٍ يرويهِ،
فجوَّز بعض السَّلف للمُوصَى له روايته عنهُ، وهو غلطٌ، والصَّواب أنَّه لا يَجُوز.
القِسْمُ الثَّامن: الوِجَادة، وهي مَصْدرٌ لـ (وَجَدَ)، مُوَلدٌ غيرُ مَسْمُوع من
العَرَبِ.
وهيَ: أن يقفَ على أحاديثَ بخطِّ رَاويها، لا يرويها الواجدُ، فَلَهُ أن يَقُول:
وجدتُ، أو قرأتُ بخطِّ فُلان، أو في كِتَابهِ بخطِّهِ، حدَّثنا فُلان، ويَسُوق
الإسْنَاد والمَتْن، أو قَرَأتُ بخطِّ فُلان، عن فُلان، هذا الَّذي استقرَّ عليهِ
العمل قديمًا وحديثًا، وهو من باب المُنْقطع، وفيه شَوْبُ اتِّصالٍ، وجَازف
بعضُهُم، فأطْلقَ فيها حدَّثنا وأخبرنا، وأُنكرَ عليهِ.
وقع في «صحيح» مُسلم أحاديث مَرْوية بالوجَادة، وانتُقدت بأنَّها من باب المقطُوع،
كقوله في الفَضَائل(870): حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبة قال: وجدتُ في كتابي، عن
أبي أُسَامة، عن هِشَام، عن أبيه، عن عائشة: إن كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
ليتفقَّد يقول: «أيَن أنَا اليوم ...» الحديث.
وإذَا وجدَ حديثًا في تأليفِ شَخْصٍ قال: ذَكَرَ فُلان، أو قال فُلان، أخبرنا
فُلان، وهذا مُنقطعٌ لا شَوْبَ فيه، وهذا كُلهُ إذا وَثِق بأنَّه خطهُ، أو كتابهُ،
وإلاَّ فليقُل: بلغنِي عن فُلان، أو وجدتُ عنهُ، ونحوهُ، أو قرأتُ في كتابٍ: أخبرني
فُلان، أنَّه بخطِّ فُلان، أو ظننتُ أنَّه خطِّ فُلان، أو ذكر كاتبه أنَّه فُلان،
أو تصنيف فُلان، أو قيل: بخطِّ، أو تصنيف فُلان.
وإذَا نَقلَ من تَصْنيفٍ فلا يَقُل: قال فُلان، إلاَّ إذ وثِقَ بصحَّة النُّسخة
بمُقَابلتهِ، أو ثقةٍ لها، فإن لم يُوجد هذا ولا نحوهُ فليقُل: بلغنِي عن فُلان، أو
وجدتُ في نُسْخةٍ من كِتَابه ونحوهِ، وتَسَامح أكثر النَّاس في هذه الأعْصَار
بالجَزْمِ في ذلك من غير تحرٍّ، والصَّواب ما ذكرناهُ، فإن كان المُطَالِع مُتقنًا
لا يَخْفى عليه غَالبًا السَّاقط، أو المُغيِّر رجونَا الجَزْم له، وإلى هذا
اسْتَروحَ كثيرٌ من المُصَنِّفين في نَقْلهم.
أمَّا العمل بالوجَادةِ، فَنُقلَ عن مُعظم المُحدِّثين المَالكيين وغيرهم أنَّهُ لا
يَجُوز، وعن الشَّافعي ونُظَّار أصْحَابه جَوَازه، وقطعَ بعض المُحقِّقين
الشَّافعيين بوجُوب العَمَلِ بها عند حصُول الثِّقة، وهذا هو الصَّحيح الَّذي لا
يتَّجهُ هذهِ الأزْمَان غيره.
النَّوع الخامس والعِشْرُون: كِتَابة الحديث وضَبْطهِ
وفيه مَسَائل:
إحْدَاهَا: اختلفَ السَّلف في كِتَابة الحديث؛ فكرهَهَا طائفةٌ وأبَاحهَا طَائفةٌ،
ثمَّ أجمعُوا على جَوَازهَا، وجَاء في الإبَاحَةِ والنَّهي حديثان.
[وجاء في الإبَاحة والنَّهي حديثان] فحديث النَّهي: ما رواهُ مسلم(880) عن أبي سعيد
الخُدْري، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَكْتُبوا عنِّي شيئًا إلاَّ
القُرآن، ومن كتبَ عنِّي شيئًا غير القُرْآن فليَمْحُه»
وحديث الإبَاحة قوله صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبوا لأبي شَاه». متفقٌ عليه(881).
وروى أبو داود والحاكم(882) وغيرهما عن ابن عَمرو قال: قلتُ يا رَسُول الله إنِّي
أسمع منكَ الشَّيء فأكتبهُ، قال: «نَعَم». قال: في الغَضَبِ والرِّضَا؟ قال:
«نَعَم، فإنِّي لا أقُول فيهما إلاَّ حقًّا».
وقال أبو هُريرة: ليسَ أحد من أصْحَاب النَّبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا عنهُ
منِّي، إلاَّ ما كانَ من عبد الله بن عَمرو، فإنَّه كان يكتب ولا أكتب. رواه
البُخَاري(883).
وروى التِّرمذي(884) عن أبي هُرَيرة قال: كانَ رَجُل من الأنصار يَجْلس إلى رَسُول
الله صلى الله عليه وسلم، فيسمع منه الحديث فيعجبهُ ولا يحفظه، فشَكَا ذلك إلى
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اسْتَعن بيمينكَ». وأومأ بيده إلى الخطِّ.
وقد اخْتُلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السَّابق، كما أشار إليه المُصنِّف
بقوله:
فالإذْنُ لمن خِيفَ نِسْيانهُ، والنَّهي لمن أمِنَ وخيف اتِّكالهُ، أو نَهَي حين
خيفَ اختلاطهُ بالقُرآن، وأذنَ حين أُمِنَ.
ثمَّ على كاتبهِ صَرْفُ الهِمَّة إلى ضَبْطهِ وتحقيقه، شَكْلاُ ونَقْطًا، يُؤمِنُ
اللَّبْس.
ثمَّ قيل: إنَّما يُشكَل المُشْكِل، ونُقِلَ عن أهل العلم كَرَاهة الإعْجَام
والإعْرَابِ إلاَّ في المُلْتبس، وقيل: يُشكل الجميع.